قال الكاتب والمحلل السياسي مصطفى الفيتوري، في مقالة له بصحيفة ميدل إيست مونيتور البريطانية، إنه بعد أكثر من عقد على انقسام ليبيا إلى حكومتين متنافستين، لا تزال البلاد منقسمة عمليًا، وإن لم يكن ذلك رسميًا.
وأضاف أن صمود ليبيا كدولة موحدة رسميًا ليس نتاجًا لتوافق وطني بقدر ما هو نتاج قيود متبادلة، لا تستطيع أي من السلطات المتنافسة تحمل التكلفة السياسية أو الاقتصادية لإعلان الانفصال صراحةً.
وتابع: يعتمد كل منها على سردية الشرعية الوطنية، بينما يفضل الرعاة الأجانب أنفسهم ليبيا مجزأة ولكنها متماسكة اسميًا، تحمي مصالحهم دون إجبارهم على تحمل مسؤوليات بناء الدولة.
وأوضح أن استمرار هذا الوضع المعلق يعكس طبيعة الترابط الوثيق بين النظام السياسي والاقتصادي الليبي؛ فثروة البلاد النفطية – التي تُعدّ الرابط الوطني الوحيد الفعال – لا يمكن تقسيمها بشكل كامل دون التسبب في انهيار مالي لجميع الأطراف أو حتى اندلاع حرب.
ولا يزال المصرف المركزي ومؤسسة النفط والقضاء ونظام رواتب القطاع العام تعمل ضمن إطار وطني، وحتى عند حدوث الحصار أو الإغلاقات، فإنها تُستخدم كأدوات للمساومة وليست خطوات نحو الانفصال. في الواقع، تبقى الفصائل الليبية قائمة من خلال احتجاز الدولة رهينة، مع بقائها معتمدة على مؤسساتها الموحدة.
وبينما حافظت القوى التاريخية والجيوسياسية على وحدة ليبيا رسميًا، فقد شكّلت ديناميكيات القيادة الداخلية الوضع المعلق الراهن للبلاد. فقد اعتقدت النخبة القومية الصغيرة التي سعت إلى ليبيا موحدة ومستقلة في خمسينيات القرن الماضي أن البلاد لا يمكنها البقاء والتقدم إلا كدولة واحدة.
لاحقًا، حافظ العقيد الراحل معمر القذافي، على خطاب وطني قوي، جعل من وحدة ليبيا محورًا أساسيًا، مؤكدًا على سلامة أراضيها وتماسكها الوطني.
كانت المناطق الليبية التاريخية – طرابلس وبرقة وفزان – قد فُرضت من قِبل القوى الاستعمارية لأسباب إدارية، ولم تتطور قط إلى كيانات تتمتع بالحكم الذاتي أو تشبه الدول، وبعد أحداث 2011 والحرب الأهلية عام 2014، لم تظهر قيادة مماثلة.
وفي غيابها، صعد إلى السلطة جيل جديد من الفاعلين، تحركهم المصالح الشخصية والإقليمية أكثر من التماسك الوطني. يرى هؤلاء الفاعلون أن من مصلحتهم الحفاظ على التقسيم الفعلي: فالبلاد مقسمة عمليًا، ومع ذلك لا يجرؤ أحد على إضفاء الطابع الدستوري على الانفصال.
يُمكّنهم هذا الوضع من السيطرة على الموارد، والنفوذ على المؤسسات، والتفاوض مع الجهات الخارجية الراعية، مع التهرب من المسؤولية الكاملة للدولة المستقلة. في الواقع، يعكس الوضع الراهن في ليبيا توازناً بين طموحات متشرذمة واعتماد مشترك على الأطر الوطنية، وهو وضعٌ هشٌّ يستمرّ لأنّ أي قوة محلية أو دولية لا ترى جدوى في تحدّيه.
لا يقتصر استمرار التقسيم الفعلي لليبيا على التشرذم الداخلي فحسب، بل يعود أيضاً إلى حسابات الجهات الخارجية الحذرة. إذ تنخرط القوى الأجنبية بشكل انتقائي مع السلطات المتنافسة، مؤمّنةً نفوذها ووصولها إلى الموارد دون الالتزام بمخاطر التوحيد الكامل أو الاعتراف الرسمي بالانفصال. في المقابل، تستغلّ الجهات الفاعلة المحلية هذا التسامح الضمني للحفاظ على سيطرتها على الحلفاء الدوليين والتفاوض معهم.
كما أنّ الرأي العام يحدّ من أيّ خطوة نحو التقسيم الرسمي. فقد أظهر استطلاع رأي غير رسمي صغير شمل 100 ليبي، أُجري الشهر الماضي، أنّ نحو 90% منهم يعارضون تقسيم البلاد، ويعبّرون عن ارتيابهم من الدعوات الخافتة، وإن كانت مستمرة، إلى نظام فيدرالي.
حتى المقترحات المتعلقة بالهياكل الفيدرالية اللامركزية للغاية – والتي تهدف إلى إدارة الثروة والتنمية الإقليمية بشكل أفضل – تُثير مخاوف واسعة النطاق باعتبارها خطوات نحو تقسيم دائم، وهو ما يفسر سبب عدم حصول مؤيدي هذه النماذج على شرعية وطنية تُذكر.
ويُعزز النسيج الاجتماعي الليبي هذا التفضيل للوحدة: فالسكان في غالبيتهم العظمى من المسلمين السنة، ومعظمهم من العرب، مع وجود أقليات صغيرة فقط، وتنتشر شبكات العائلات عبر المناطق. وتعني هذه الروابط الاجتماعية العميقة أنه على الرغم من واقع الانقسام الفعلي، فإن معظم الليبيين يُفضلون دولة موحدة جزئياً على الانفصال الرسمي.
بينما يستمر التقسيم الفعلي لليبيا، يبقى خطر الانفصال الرسمي منخفضًا، ويعود ذلك جزئيًا إلى محدودية الطموحات الانفصالية. لطالما نادت بعض الأقليات، وعلى رأسها الأمازيغية، بمزيد من اللامركزية والاعتراف بحقوقها الثقافية والإدارية.
وفي بعض الأحيان، أثارت لفتات رمزية – مثل رفع العلم الأمازيغي إلى جانب العلم الوطني عند معبر رأس جدير مع تونس – تكهنات حول نوايا انفصالية. مع ذلك، لا تمثل هذه العناصر سوى نسبة ضئيلة من السكان، وحتى عندما تدعم بعض القوى الأجنبية ضمنيًا مزيدًا من الحكم الذاتي لأسباب استراتيجية، فإن احتمال حدوث انقسام رسمي مدفوع بتطلعات هذه الأقليات ضئيل للغاية.
بالنسبة لغالبية الليبيين، يبقى التقسيم الفعلي واقعًا غير مريح، وليس نتيجة مرغوبة، وتستمر القيود الاجتماعية والتاريخية والجيوسياسية الأوسع في ترجيح كفة دولة واحدة، وإن كانت تعاني من بعض الخلل الوظيفي.
ويتعزز استمرار حالة الجمود الحالية في ليبيا بفعل كل من الجمود الداخلي والحسابات الخارجية. داخلياً، تتوخى الفصائل المتنافسة والسلطات الإقليمية الحذر من إثارة أزمة دستورية قد تتطور إلى حرب شاملة؛ إذ تفوق تكاليف إضفاء الطابع الرسمي على التقسيم المكاسب المحدودة التي قد يأمل أي طرف في تحقيقها.
خارجياً، لا تزال القوى الأجنبية تتعامل مع ليبيا ككيان واحد لأغراض دبلوماسية وأمنية واقتصادية. حتى أولئك الذين قد يستفيدون من ليبيا المقسمة – من خلال التحالفات المحلية، أو الوصول إلى الموارد، أو الموطئ الاستراتيجي – يفضلون حالة عدم اليقين المتوقعة للترتيب الحالي على العواقب غير المتوقعة للتفكك الرسمي.
ونتيجة لذلك، أصبح التقسيم بحكم الأمر الواقع توازناً مستداماً: تبقى ليبيا موحدة رسمياً، ومترابطة اجتماعياً، ومعترف بها دولياً كدولة واحدة، حتى مع وجود إدارات متنافسة تحكم بالتوازي وتتنافس على النفوذ.
على الرغم من أن التدخل الأجنبي عامل ثابت في أزمة ليبيا، إلا أنه عارض حتى الآن التقسيم الرسمي، لأن مثل هذه الخطوة لا تقدم أي مكاسب استراتيجية كبيرة للقوى الإقليمية أو العالمية.


