قالت صحيفة العرب إن التجربة الليبية خلال العقد الأخير تظهر أن الأزمات المركّبة للدول الخارجة من الصراع لا تُعالج فقط عبر الحلول التقنية أو التوافقات الشكلية، بل عبر مقاربات شاملة تُعيد بناء توازنات السياسة والأمن والاقتصاد في آن واحد.
الصحيفة اللندنية أضافت أن خارطة الطريق الأممية التي طرحتها المبعوثة حنّا تيتيه أمام مجلس الأمن نهاية الشهر الماضي تأتي في هذا السياق، كإطار يحاول أن يقدّم معادلة جديدة لمعالجة الانسداد السياسي والانفلات الأمني واستنزاف الموارد الاقتصادية.
وأوضحت الصحيفة أن هذه الخارطة تأتي كاختبار حقيقي لقدرة الفاعلين المحليين والدوليين على الانتقال من إدارة الأزمة إلى إنتاج تسوية قابلة للاستمرار، لافتة إلى أنه يمكن استدعاء أدبيات الانتقال الديمقراطي المتعثر التي تبرز أن الانتقال ليس خطاً مستقيماً نحو الاستقرار، وإنما هو مسار متعرج تحكمه صراعات النخب.
وأشارت الصحيفة إلى أن محاولة تحويل خارطة الطريق الأممية إلى واقع عملي تصطدم أولاً بواقع الانقسام الميداني داخل العاصمة طرابلس نفسها، فالتوترات التي تفجّرت خلال الأشهر الأخيرة، خاصة بعد اغتيال أحد أبرز قادة الأجهزة الأمنية وما تبعها من اشتباكات دامية، كشفت أن قرار السلم أو العنف لا يزال رهناً بمجموعات مسلحة متنافسة أكثر منه بمؤسسات الدولة الرسمية.
ولفتت إلى أن هذه الحالة تجعل أيّ التزام سياسي أو تفاهم أمني عرضة للانهيار عند أول اختبار جدي، وفي الوقت ذاته تبدو مؤسسات الدولة منقسمة وعاجزة عن فرض قرارات موحدة، بينما يسعى كل طرف إلى تعزيز شرعيته عبر التحالفات الظرفية والصفقات غير المعلنة.
أما على الصعيد الدولي، فترى الصحيفة أن القوى الإقليمية والأوروبية التي تبحث في ملفات الهجرة والطاقة تتعامل مع الأزمة الليبية كأداة ضمن صراعاتها الأوسع، ما يجعل خارطة الطريق الأممية عُرضة لأن تتحول إلى ورقة مساومة أكثر منها برنامجاً للتسوية.
بهذا المعنى فإن الرهان الأساسي ليس على وجود وثيقة مُحكمة الصياغة، وإنما على قدرة البعثة الأممية على فرض آليات تنفيذ تردع المجموعات المسلحة وتُلزم الأطراف الخارجية بعدم استخدام ليبيا كساحة لتصفية الحسابات.
وفي البعد الإقليمي تحديدا، قالت الصحيفة إن الرهان يبدو أكثر تعقيدا، فتركيا التي عزّزت وجودها في غرب ليبيا لن تسمح بخارطة طريق تُقصي مصالحها الأمنية والاقتصادية، وإيطاليا ترى في الاستقرار الليبي شرطاً لكبح تدفقات الهجرة وضمان شراكات الطاقة، بينما روسيا، المتغلغلة في الشرق عبر حضورها العسكري، توظف الورقة الليبية في لعبة النفوذ مع أوروبا.
وبذلك تتحول الخارطة إلى ساحة اختبار ليس فقط لليبيين، بل لموازين القوى الإقليمية والدولية، حيث لا يمكن لأيّ سيناريو أن يمضي قُدماً ما لم يحظَ بحدّ أدنى من التوافق الضامن لمصالح هذه القوى، وهنا نستعيد أطروحات الأمن الإقليمي المركّب، حيث تصبح الدولة الضعيفة مسرحاً لتقاطعات أمنية تجعل من أيّ تسوية داخلية مشروطة بصفقات إقليمية ودولية.
وقالت صحيفة العرب إن على المستوى السياسي، يتجلى الانسداد في غياب توافق بين المؤسسات المتوازية حول أولويات المرحلة المقبلة، وفي مقدمتها الانتخابات التي تُطرح على الورق أكثر ممّا تُبنى لها شروط على الأرض.
وأضافت أنه على الصعيد الدولي، فإن الاستهداف الصاروخي الذي طال محيط مقر الأمم المتحدة في جنزور خلال أحد اجتماعاتها الأخيرة مثّلت رسالة رمزية على هشاشة الحضور الأممي وقدرته المحدودة على فرض أيّ مظلة آمنة للحوار.
وأوضحت أنه إذا ما أُخذت خارطة الطريق الأممية على محمل الجد، فإنها تفتح أفقاً متعدد المستويات لإعادة تشكيل الدولة الليبية، وعلى المستوى السياسي، يمكن أن تشكّل الانتخابات المزمع التحضير لها لحظة فاصلة تُنهي حالة الازدواجية المؤسسية التي أنهكت البلاد لسنوات، حيث يتحول التنافس من منطق السيطرة المسلحة إلى منطق الشرعية الانتخابية، بما يعيد إنتاج الدولة كإطار جامع.
واختتمت أن هذا الأفق سرعان ما يصطدم باحتمال أن تتحول الانتخابات نفسها إلى مصدر جديد للخلاف، إذا لم تُبنَ على قاعدة توافقية تُجنّبها الطعن المسبق في نتائجها، وهو ما قد يُعيد إنتاج الانقسام بدل تجاوزه.