ما زالت الدولة الليبية تقف على قارعة الأزمة السياسية التي تروح مكانها ملوحة ببوادر حرب أهلية تلوح في الأفق. أسباب التعثر في الحل ليس مردها خلافات الأشقاء الفرقاء واختلافاتهم بقدر ما تعود إلى تزاحم المصالح الإقليمية والدولية في ليبيا.

 

ويتجه المشهد في ليبيا إلى العسكرة والاحتكام إلى السلاح بدعم وإسناد دولي وإقليمي، ولا سيما بعد تنامي النفوذ الأميركي وتصاعده في ليبيا التي باتت جميع الأطراف فيها تتجه نحو مزيد من التسليح

 

ويذكر أن واشنطن ما دخلت أو تدخلت في بلد إلا وأتت على الأخضر واليابس، ونماذج ذلك أكثر من أن تعد أو تحصى، وليبيا واحدة من أهم تلك النماذج.

 

في وضع أمني متدحرج صوب الحرب الأهلية نتيجة التصعيد الحاصل في شرق ليبيا وغربها، ونموذجها الاشتباكات التي شهدها معبر رأس جدير على الحدود الليبية التونسية بين قوى الأمن الليبية ومجموعات مسلحة، والتي أفضت إلى إغلاق المعبر في مارس الماضي، وقد أفادت حينها صحف كثيرة بأن مسلحين محليين اقتحموا معبر رأس جدير الحدودي مع تونس، واشتبكوا مع عناصر تابعة لوزارة الداخلية، واستولوا على كل آليات قوة إنفاذ القانون وعتادها.

 

بعد 11 يوماً فقط على حادثة معبر رأس جدير، وفي مطلع شهر أبريل الجاري، حدث إطلاق قذائف صاروخية على منزل عبد الحميد الدبيبة.

 

صحيح أنَّ الهجوم لم يسفر عن خسائر بشرية، لكنه ترك دلالات غاية في الأهمية، أبرزها أنه لا أحد بمنأى عن نيران العسكرة والتصعيد في ليبيا، وإن كان رئيس الوزراء.

 

وبينما لا تبدو الانتخابات ممكنة في المنظور القريب، يتجه المشهد في ليبيا إلى العسكرة والاحتكام إلى السلاح بدعم وإسناد دولي وإقليمي، ولا سيما بعد تنامي النفوذ الأميركي وتصاعده في ليبيا التي باتت جميع الأطراف فيها تتجه نحو مزيد من التسليح.

 

ولا تخفي الولايات المتحدة نياتها في ليبيا كمحاصرة النفوذ الروسي والصيني أو أجندتها بالبحث عن موضع قدم في المحاصصة السياسية والاقتصادية. لذلك، تتدافع وفودها العسكرية، وآخرها زيارة وفد الملحق الدفاعي الأميركي في إبريل الجاري لقواعد عسكرية تابعة لقوات حكومة الوحدة في مصراتة والخمس غرب ليبيا.

 

وعلقت السفارة الأميركية لدى ليبيا، في تغريدة عبر منصة إكس، بالقول إن الوفد قام بزيارات مثمرة إلى المنطقة العسكرية الوسطى وقاعدة الخمس البحرية ومختلف القوات العسكرية المهمة وقوات مكافحة الإرهاب، وذكرت السفارة أنَّ الولايات المتحدة تقدر دور هذه القوات الاستراتيجي والتزامها بالسلام، مضيفة: “سنستمر في دعم الجهود في جميع مناطق ليبيا لتعزيز الأمن المستدام”.

 

دائماً هناك فرق بين ما تقوله الرواية الأميركية وما يحدث على الأرض. وفي ليبيا، فإن أحداث معبر رأس جدير تعكس ذلك وتمرر رسائل مفادها أن واشنطن قادرة على قلب الطاولة وسحب المشهد الليبي باتجاه التصعيد إذا تعارضت إحداثياته مع المصالح الأميركية، وهذا عين ما كشفته الإذاعة الفرنسية في مارس الماضي عن وجود شركة أمنية أميركية خاصة تدعى “أمنتوم” في العاصمة الليبية طرابلس، بهدف توفير التدريب العسكري للجماعات المسلحة من أجل دمجها في القوات الرسمية هناك، مشيرة إلى أن هذه الشركة سبق أن قدمت التدريب لقوات الأمن في العراق وأفغانستان.

 

وسيكون مقر شركة “أمنتوم” الأميركية في ليبيا بموجب عقد مع حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة، وسيكون رجالها في قاعدة معيتيقة في طرابلس.

 

المفارقة أن مشاهد العسكرة والتغلغل الأميركي في ليبيا تحدث رغم جمود المسار السياسي وتوقفه منذ أشهر، بسبب الخلافات بين القادة الرئيسيين حول خارطة الطريق المؤدية للانتخابات، إذ يدعو معسكر الشرق الليبي إلى تشكيل حكومة جديدة وموحّدة تتولى التحضير للعملية الانتخابية.

 

في المقابل، يرى معسكر الغرب الليبي أن الحلّ يكمن في إجراء انتخابات بعد إصدار قوانين انتخابية عادلة، فيما يعتبر جزء كبير من الليبيين أن هذه الصراعات والخلافات هي مجرد مناورة للبقاء في المناصب وتعطيل الانتخابات.

 

وسط حالة العسكرة تلك، لا يبدو أن دعوات رئيس بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا عبد الله باتيلي تلقى آذاناً صاغية أو أن نياتها صادقة. وقد جدد الرجل دعوته في أبريل الجاري من وصفهم بالفرقاء الليبيين الرئيسيين بالبناء على الاتفاقات القائمة لتجنب المزيد من التأخير في الوصول إلى تسوية سياسية.

 

من سوء طالع المشهد الليبي ومستقبل مساره السياسي أن دعوة باتيلي للمصالحة وتنسيق المبادرات الدولية والإقليمية الرامية إلى دعم حل يقوده ويملك زمامه الليبيون، تزامنت مع متغيرين.

 

الأول: التعهد الأميركي بدعم جهود تعزيز الأمن وتوحيد الجماعات المسلحة، والثاني: الزيارات المكوكية الأخيرة للوفود الأميركية، وأحدثها زيارة المبعوث الخاص السفير ريتشارد نورلاند والوفد المرافق له، وهو ما يعني أن دعم واشنطن لدعوات باتيلي، ليس لمصلحة ليبيا أو تصالح الفرقاء أو إيجاد حلول للأزمة السياسية الليبية واستحقاق إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، ولكن من أجل تنفيذ

أجنداتها المتعلقة بنهب أكبر قدر من النفط الليبي والحفاظ على مصالحها ومحاصرة التمدد الروسي ممثلاً في قوات فاغنر في ليبيا، وخصوصاً أن واشنطن لا تمتلك أي استراتيجية واضحة تجاه معالجة أو حل الأزمة السياسية في ليبيا، والمتاح أمامها هو دعم مبادرة باتيلي التي تتقاطع إلى حد كبير مع المصالح والأجندة الأميركية.

 

لذلك، من بين الأهداف المفسرة لهرولة الوفود الأميركية هو دعم خليفة حفتر، وذلك من خلال الضغط على حكومة الوحدة في طرابلس المنطقة الغربية، وهو عين الهدف من التلويح بدمج المجموعات المسلحة في الجيش الليبي، والمستهدف هنا قوات حفتر، وهذا عهد الولايات المتحدة الأميركية أن تبحث عن مندوب لمصالحها في المناطق التي تخترقها.

 

ومن بين المسكوت عنه في نيات التعاون العسكري بين الولايات المتحدة الأميركية وليبيا إمكانية مشاركة الجيش الليبي في مناورات وتمارين الأسد الأفريقي السنوية، وهي المناورة التي يشارك فيها كيان الاحتلال، والتي تعتبر بوابة خلفية للتطبيع.

 

إنَّ استشراف الأزمة السياسية في ليبيا وسيناريوهات حلها لا تبدو قريبة، وخصوصاً أن هناك متغيرين يحكمان المشهد؛ الأول هو التدخلات الدولية الأميركية والفرنسية والألمانية والتركية، والآخر هو تغليب العسكرة، ولا سيما في ظل انسداد الأفق السياسي وتعثر إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي تعد أهم استحقاق، وعدم ملاءمة الظروف الداخلية في ليبيا لكسر حالة الجمود السياسي واصطدامها بعدة معوقات محلية، أهمها الخلاف المستمر بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة. وخارجياً، تقدم أهمية وأولوية متغيرات إقليمية ودولية على حساب الأزمة الليبية، وخصوصاً في ظل استمرار الحرب الروسية الأوكرانية وحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة.

 

ختاماً، إن اصرار الأطراف الداخلية والدولية والإقليمية على عسكرة الأزمة السياسية في ليبيا لا يقتصر على حدود التدخل الأميركي ومحدداته، كالتدريب والزيارات والوفود واللقاءات والدعم وتقنين الجماعات المسلحة من خلال دمجها في الجيش الليبي، فهنا في مشهد دعم عسكرة الأزمة السياسية تحضر تركيا التي وقعت معها حكومة الوحدة الليبية برئاسة عبد الحميد الدبيبة في 2 فبراير الماضي مذكرة تفاهم عسكرية مع وزير الدفاع التركي ياشار غولر.

 

ووصفت حكومة الوحدة الوطنية توقيع المذكرة بأنه يندرج ضمن ما وصفته “بمتابعة التعاون العسكري بين ليبيا وتركيا”، والذي بدأ مع توقيع اتفاقيتين أمنية وبحرية مع حكومة الوفاق الوطني الليبية السابقة في أواخر نوفمبر 2019.

 

وبموجب مذكرة التفاهم الأمنية تلك، تدخلت تركيا عسكرياً في ليبيا في مواجهة قوات خليفة حفتر، الذي يبدو أنه لم ينتظر طويلاً، ففي ابريل الجاري، كشفت صحيفة التايمز الإيرلندية عن تدريب جنود سابقين لقوات تابعة لخليفة حفتر في ليبيا بالتزامن مع حظر الأسلحة المفروض من الأمم المتحدة على البلاد وانتهاكها قانون حظر التدريب. وأشارت الصحيفة الإيرلندية إلى أن الشركة حصلت على عقد بملايين اليورو بين عامي 2023 و2024 لتدريب القوات العسكرية وتزويدها بالمعدات اللازمة.

 

وفي مارس الماضي، تصاعدت المخاوف إثر جملة من الرسائل التحذيرية وجَّهها حفتر، إذ قال: “إن مجال منح الفرص أصبح ضيقاً، وعلى المعرقلين مراجعة حساباتهم قبل أن تداهمهم الأحداث”. قد تبدو تلك العبارة أدق تفسير لمآلات عسكرة الأزمة السياسية في ليبيا، التي إن قدر لها أن تنفجر، فإنها ستتجاوز الجغرافيا الليبية.

Shares: