لم تضف تركيا أهمية تذكر لأي تأثير إعلامي يمكن أن يكون لها في ليبيا.
هي تعتمد بالأساس على النخب الموالية لسياساتها، والتي تنتمي إلى تيار الإسلام السياسي،
وإلى بعض القوى الليبرالية،
وبعض من كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وصفهم بأتراك ليبيا،
وعلى لوبيات اقتصادية ومالية فاعلة وخاصة في العاصمة السياسية طرابلس والعاصمة الاقتصادية مصراتة،
من بين رموزها شخصيات سياسية نافذة ومتداخلة في الحكم أو قريبة من دوائره،
وعلى رأسها في المشهد الحالي المهندس عبدالحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها،
والذي وصل به الأمر خلال رئاسيات تركيا الأخيرة إلى التصريح بصوت عال
أمام مشاركين أتراك في معرض طرابلس الدولي للإنشاءات في مايو 2023
إن “من لا يصوت لأردوغان لن يعمل بليبيا”.
وقع الدبيبة اتفاقيتين في أكتوبر 2022 مع وزير الدفاع التركي بناء على اتفاق نوفمبر 2019 تضمنتا “بروتوكولات تنفيذ الاتفاقية الأمنية”
وهو ما شكّل دعما واضحا لحضور أنقرة العسكري في غرب ليبيا
سواء عبر خبرائها العسكريين وقواتها الميدانية في قواعد معيتيقة والوطية ومصراتة،
أو عبر آلاف المرتزقة المقيمين في عدد من المعسكرات في طرابلس وحولها،
وفي مارس الجاري، وقع الدبيبة بصفته وزيرا للدفاع في حكومته مذكرة تفاهم عسكرية مع الجانب التركي،
ضمن ما وصفته الحكومة “بمتابعة التعاون العسكري بين ليبيا وتركيا”.
إلى جانب ذلك، تم إبرام عدد كبير من الاتفاقيات الاقتصادية والصفقات التجارية
التي زادت من تكريس النفوذ التركي في ليبيا بشكل غير مسبوق
أكد أردوغان في يوليو 2021 أن بلاده لن تسحب قواتها،
أو آلاف المرتزقة السوريين الذين دفعت بهم إلى طرابلس،
معتبرا أن “نجاحات تركيا العسكرية والدبلوماسية هناك أعادت خلط الأوراق،
ليس في ليبيا وشرق البحر المتوسط فحسب، بل في العالم أجمع”.
في يوليو 2022 كان الدبيبة جريئا في مواجهة المواقف الإقليمية والدولية
حيث قال بصوت عال “لا يهمني ما يقولون.. نحن مستمرون في طريقنا”.
أصبحت مذكرتا التفاهم حول الأمن والحقوق البحرية
اللتان وقع عليهما رئيس المجلس الرئاسي السابق فائز السراج مع الرئيس التركي أمرا واقعا،
رغم الرفض الداخلي وخاصة من قيادة الجيش في المنطقة الشرقية ومجلس النواب والفعاليات الاجتماعية،
والرفض الخارجي الذي ووجهتا به من قوى إقليمية ودولية.
استطاعت أنقرة التمدد إلى المنطقة الشرقية باستقبالها رئيس البرلمان عقيلة صالح في أكثر من مناسبة كضيف مرحب به من قبل أردوغان وكبار مساعديه،
وتم فتح جسور للتواصل بين الأتراك والقائد العام للجيش الجنرال خليفة حفتر عبر وساطات
ومن خلال زيارات مساعديه إلى أنقرة.
في أكتوبر 2023 وصل نائب وزير الخارجية التركي أحمد يلدز رفقة السفير التركي إلى ليبيا كنعان يلمز إلى بنغازي
رفقة وفد كبير من رجال الأعمال للمشاركة في المؤتمر الدولي لإعادة إعمار درنة والمدن والمناطق المتضررة.
وفي فبراير الماضي،
أعلن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أن بلاده قررت إعادة افتتاح قنصليتها في مدينة بنغازي قريبا.
ساعد تطبيع العلاقات بين أنقرة وعواصم دول الاعتدال العربي (مصر، الإمارات، السعودية)
على ترطيب الأجواء بين الأتراك وشرق ليبيا وفسح المجال أمام جهود التواصل بين الطرفين،
وهو ما بات واضحا من خلال تلطيف الخطاب السياسي والإعلامي.
استطاعت المصالح الاقتصادية أن تفرض شروطها بقوة سواء من هذا الجانب أو ذاك،
وتشكلت أمام المراقبين صورة واقعية عن دور القوى الدولية
في وضع الخطوط العريضة لأصحاب القرار في الداخل الليبي.
لا تريد تركيا أن تنافس روسيا في شرق وجنوب ليبيا،
وإنما هي قادرة على الاستفادة من الحضور الروسي بما يتيسّر لها من مصالح،
وفي الوقت نفسه، تقدم نفسها للقوى الغربية
وفي مقدمتها واشنطن على أنها تحمي مصالحها في غرب ليبيا،
وهي في الأول والأخير عضو مهم في حلف شمال الأطلسي، وقواتها الموجودة في مدن الساحل الغربي الليبي تبقى جزءا من الناتو،
وتدخلها في العام 2020 كان حاسما في التصدي لمحاولة الجنرال حفتر المدعوم من موسكو بسط نفوذه على العاصمة طرابلس.
تضع أنقرة يدها على أهم مفاصل السلطة في غرب ليبيا؛
مصرف ليبيا المركزي، ولكن دون اصطدام مع واشنطن ولندن ودار الإفتاء
من خلال علاقاتها الاستثنائية مع التيار المسيطر عليها بقيادة الصادق الغرياني المعزول من قبل مجلس النواب منذ نوفمبر 2014،
والمقرب من الحكومات المتتالية في طرابلس وخاصة حكومة الدبيبة التي وفرت له ما يحتاج من إمكانيات لتكريس مشروعه الفكري والعقائدي المتشدد،
ومنه الجانب التعليمي الذي يقدم دورات في اللغة التركية، هناك كذلك رجال الأعمال الكبار الذين يستثمرون أموالهم في تركيا وباتوا يمثلون قوة ضغط لفائدتها،
وقادة الميليشيات وأمراء الحرب الذين يعتبرون الحضور التركي غطاء لهم ولنفوذهم كما حصل في المواجهات مع قوات حفتر
لا تقف تركيا عند هذا الحد، فهي نجحت إلى حد الآن في نشر عقيدتها العسكرية
من خلال إشرافها على تدريب أكثر من 15 ألف ضابط وجندي في غرب ليبيا،
وتقديم الدعم الصحي لنحو 37 ألف شخص أغلبهم من المسلحين.
وتحتضن إسطنبول عددا من المؤسسات الإعلامية الليبية البارزة من بينها قناة “التناصح” التي يديرها سهيل الغرياني ابن الصادق الغرياني،
و”سلام” التي يملكها رجل الأعمال علي الدبيبة ويشرف عليها عمليا
ويدير عملية الإنتاج فيها وزير الدولة للاتصال والشؤون السياسية وليد اللافي، و”ليبيا الأحرار” التي مضى على تأسيسها 13 عاما،
وكانت في البداية تبث من الدوحة بتمويل قطري قبل أن تنتقل إلى إسطنبول في العام 2017.
المؤسسات الخيرية التركية تتمدد بشكل كبير في ليبيا،
وأبرزها وكالة “تيكا” التي لا تترك مجالا دون أن تنخرط فيها،
وقبل أيام أعرب منسقها العام علي بجانيكل عن استعدادهم لمساعدة ليبيا
في مكافحة الحمى القلاعية التي تصيب المواشي في عدد من المدن الليبية.
يتعامل الأتراك مع الواقع الليبي بدهاء منقطع النظير، هم يدركون طبيعة النسيج السياسي والاجتماعي والثقافي في البلاد،
ويعملون انطلاقا من دراسات علمية وتحاليل استخباراتية لكل ما يجري في ليبيا.
ويتحركون بكثير من البراغماتية ومن تقديم الحسابات والمصالح.
هم يعرفون ما يريدون وكيف يصلون إلى تحقيق أهدافهم
عبر توفير الدعم المناسب لمن يستطيع خدمة تلك المصالح.
لقد وصل بهم الأمر إلى دعوة الكثير من الوجوه التي لا تلاقي قبولا اجتماعيا
إلى الاختفاء والابتعاد عن الأضواء والاهتمام بالاستثمارات وتحريك الأموال.
من بين مذكرات التفاهم الموقعة بين حكومتي أنقرة وطرابلس في أبريل 2021
مذكرة حول “التعاون الإستراتيجي في مجال الإعلام” تهدف إلى تنفيذ دراسات مشتركة،
وإلى تبادل المعلومات والخبرات والتجارب في مجال الإعلام،
من أجل تأسيس بنية تحتية لشبكة علاقات إعلامية قوية.
وهي تدخل في سياقات التعاون بين تركيا وحلفائها البارزين. لكن ذلك جزء من الصورة،
لأن النظر بعمق أكثر للمشهد في ليبيا يشير إلى أن السلطات الحاكمة في طرابلس ومدن الساحل الغربي
بأجنحتها السياسية والمالية والاقتصادية والعسكرية والإعلامية والثقافية والدينية
هي التي تتولى القيام بكل ما يمكن أن تحتاج إليه تركيا من وظائف الإعلام الموجه لخدمة مصالحها