القدس العربي – أثار الارتفاع المفاجئ والقياسي غير المسبوق لسعر صرف الدولار الأمريكي مقابل الدينار الليبي قلقا شعبيا واسعاً ومخاوف من انعكاسات هذا الارتفاع على تكاليف معيشة المواطن، وسط تساؤلات عن أسباب هذا الارتفاع في البلد المصدّر للنفط.
ومؤخراً تخطّى سعر الدولار في السوق الموازية حاجز الـ7 دنانير ليبية للدولار الواحد، وذلك بعد أن استقر سعره لسنوات عند 5 دنانير للدولار الواحد.
وتسبب عدم قيام مصرف ليبيا المركزي بتوفير العملة الصعبة بشكل منتظم فضلاً عن تذبذبه في فتح الاعتمادات في الفترة من تشرين الأول/أكتوبر إلى كانون الثاني/يناير من العام الجاري وتوقف الاعتمادات وتوفير العملة الصعبة بشكل كامل خلال سنة 2024 في رفع سعر الدولار في السوق السوداء إثر عدم توفره من المصادر الرسمية ما جعل التجار هم من يتحكمون في تسييره.
كما أن إيقاف المركزي للاعتمادات وعدم انتظامه في توفير العملة الصعبة أوقف الإيداعات من رجال الأعمال في المصارف ما جعل ليبيا تعيش مشكلة سيولة لم تشهدها منذ سنوات. فيما عجز الكثير من زبائن المصارف وخاصة التجار عن سحب أموالهم بشكل نقدي ما دعاهم لشراء العملة الصعبة لتوفير ما يحتاجونه من أموال.
كل هذه الأسباب جعلت الارتفاع في سعر صرف الدولار يتضاعف تزامنا مع شكوك في أداء الحكومة، حيث يؤكد اقتصاديون أن ارتفاع الدولار سيستمر حتى يقوم المصرف المركزي بفتح الاعتمادات وشحن بطاقة العملة الصعبة مجدداً.
ورغم قيام المركزي بتوفير حل بديل يتمثل في فتح منظومة لتوفير ما قيمته 4000 آلاف دولار إلا أن هذا لم يستطع حل الأزمة بل ضاعفها حيث تصاعد الطلب على العملة الصعبة في حين لم يتمكن المركزي من الاستجابة لهذا الضغط ما ساهم في تقوية السوق السوداء أكثر.
وكحل مؤقت كما ذكرنا سابقاً منح مصرف ليبيا المركزي في مطلع شباط/فبراير الماضي المصارف صلاحية البت في طلبات بيع النقد الأجنبي للأغراض الشخصية عن طريق الرقم الوطني لكل مواطن ليبي يبلغ من العمر 18 سنة فما فوق بعد استيفاء متطلبات حجز العملة الأجنبية للأغراض الشخصية.
واشترط المصرف أن يكون الحد الأقصى لما يتم بيعه للشخص الواحد من خلال جميع المصارف العاملة في ليبيا هو 4 آلاف دولار أو ما يعادله من العملات الأخرى.
وأوضح إمكانية النظر في تغييرها لاحقا شريطة أن يُدير حساباً مصرفياً من طرف المصرف، الذي يتم البيع عن طريقِه وعلى أن يُغطي الحساب قيمة العُملة المباعة في حينه.
وأشار المصرف إلى ضرورة أن يكون استخدام الحساب وفقا لإصدار وشحن بطاقات، أو فتح حسابات بالنقد الأجنبي للمواطنين لإيداع العُملة المشتراة وفقاً للقانون رقم (1) لسنة 2005 بشأن المصارف وتعديله؛ وتمكينهم من استخدامها أو تحويلها إلى حساب آخر سواء لأفراد أو جهات اعتبارية.
كما لفت إلى الإذن بالسماح للأفراد والجهات الاعتبارية شراء العُملة الأجنبية الموجودة بحسابات المواطنين بالنقد الأجنبي المُخَصّصة بموجب هذا المنشور وتجميعها دون سقف مُحَدّد داخل القطاع المصرفي الليبي.
واشترط في شراء العُملة الأجنبية الموجودة بحسابات المواطنين، استخدامها في الأغراض المحددة بهذا المنشور إضافة إلى تحويلها عن طريق إجراء حوالات سريعة بالعُملة الأجنبية إذا توفرت بالمصرف.
وبخصوص شراء النقد الأجنبي لأغراض فتح الاعتمادات المستندية، منح المصرف المركزي المصارف صلاحية البت في طلبات فتح الاعتمادات المستندية لكافة السلع والخدمات المسموح باستيرادها قانوناً شريطة توفر رمز مصرفي «CBL» ساري المفعول.
وشدد المصرف المركزي على جميع المصارف ضرورة بذل العناية الواجبة للتأكد من صحة البيانات المتعلقة بالجهة طالبة فتح الاعتماد المستندي، وعدم وجود أي أسباب تحول دون الاستمرار في التعامل معها قبل المباشرة في إجراءات فتح الاعتماد المستندي.
وأشار إلى ضرورة عدم تبليغ الاعتماد المستندي إلا بعد شراء العملة الأجنبية لتغطية الاعتماد المستندي.
ونوه إلى أن يكون الحد الأعلى لقيمة الاعتماد المستندي الخدمي الواحد 2 مليون دولار، والتجاري 3 ملايين دولار أمريكي، والصناعي 7 مليون دولار أمريكي، أو ما يعادله من العملات الأخرى.
ولفت المركزي إلى الأخذ في الاعتبار قيمة الاعتمادات المستندية القائمة لكل جهة عند منح الموافقة، وفي أي حال لا يتم تجزئة الاعتماد المستندي لتوريد السلع الصناعية التي تتجاوز قيمتها المبلغ المذكور.
ويقول المحلل المالي سليمان الشحومي إن المصرف المركزي هو العارض الوحيد للدولار، و«بالتالي قادر على قيادة اتجاهات السوق الموازية بفضل ما يطرحه بوسائل مختلفة، مع استمرارية تدفق العملة بشكل منتظم».
وأكد الشحومي، في تصريح صحافي أن الضوابط الكمية التي يفرضها المركزي ترجع إلى عجز ميزان المدفوعات خلال العام الماضي، وبالتالي يلجأ المصرف لتعديل كفته هذا العام.
ويرى محللون أن ما قدمه المركزي من حلول غير كافية ولا تستطيع مواجهة ضخ السوق السوداء من عملة أجنبية ولا تستطيع الاستجابة للطلب وخاصة من صغار التجار الذين لا يستطيعون التقديم للحصول على اعتمادات.
خلاف مع المركزي
وصاعد الحديث عن الصراع الخفي كما يصفه المراقبون بين رئيس الحكومة في طرابلس عبدالحميد الدبيبة ومحافظ المركزي الصديق الكبير، من وتيرة المشاكل الاقتصادية في البلاد حيث لم يتوقف هذا الصراع منذ أن ظهر للعلن في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، حيث يروج كثيرون لعزم الدبيبة الضغط لعزل الكبير عقب اتخاذ الأخير خطوات لترشيد الإنفاق الموسع للحكومة.
ويتمسك الدبيبة بموقفه ويسعى لتغيير محافظ مصرف ليبيا المركزي عبر الوصول لمجموعة من التفاهمات مع الشركاء في الحكم تقضي باستبدال الكبير على غرار صفقة النفط، لكن لا يزال هذا الموقف يلقى معارضة من أغلب الأعضاء في مجلسي النواب والدولة، الذين يرفضون الإقدام على الخطوة حاليا في ظل ما يلقاه الكبير من دعم دولي.
ويتخوف المهتمون بالشأن الاقتصادي في ليبيا أن تدفع البلاد ثمن الصراع بين الدبيبة والكبير، والذي بات يثير جدلا واسعا في الأوساط الليبية المتخصصة، فالخلاف بين الطرفين يؤثر على وضع العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية في السوق الموازية للعملة.
وأوقف الصديق الكبير في كانون الأول/ديسمبر الماضي، تمويل الإنفاق العام لحكومة الوحدة الوطنية، وحسب متابعين فمنذ ذلك الوقت قرر الدبيبة الانقلاب على الكبير وإقالته من منصبه على أن يقوم بتعيين شخص مقرب له، وبالتالي يضمن عدم تكرار أزمة وقف الإنفاق على حكومته والجماعات التابعة له، بل وتواصل مع الجماعات التابعة للكبير حتى لا تقف عائقاً أمام تنفيذ خطته.
وفي السياق كشف موقع «أفريكا إنتلجنس» عن وساطة قادها وزير خارجية تركيا هاكان فيدان، خلال زيارته إلى ليبيا في 7 شباط/فبراير الحالي للتقريب بين رئيس حكومة الوحدة عبدالحميد الدبيبة ومحافظ المصرف المركزي الصديق الكبير، وتهدئة التوتر بينهما.
وحسب الموقع الاستخباري الفرنسي، فإن الوزير التركي التقى سرًا محافظ المصرف المركزي الصديق الكبير بتنسيق وتسهيل من سفير تركيا لدى ليبيا كنعان يلمز، خلال زيارته إلى العاصمة طرابلس التي لم تكن الأولى له بل وصل إليها مطلع عام 2023 بصفته مديرًا لجهاز المخابرات التركي.
وأضاف «أفريكا إنتلجنس» أن اللقاء الذي جرى بتكتم تام وبعيدًا عن الإعلام والصحافة، بحث خلاله الجانبان وجهات النظر داخل السفارة التركية.
وكان فيدان قد اجتمع مع رئيس حكومة الوحدة عبدالحميد الدبيبة قبل لقائه الكبير، حيث أشار الموقع إلى أن أنقرة تواصل دعم حكومة الدبيبة، في حين تمارس دول منها فرنسا ومصر الضغط لتشكيل حكومة جديدة لإجراء الانتخابات العامة.
مشاكل عديدة
ليس ارتفاع سعر صرف الدولار المشكلة الوحيدة التي فاجأت الليبيين مع اقتراب الشهر الفضيل، إلا أن تأخر تسييل المرتبات ونقص السيولة أيضا صاعد الغضب الشعبي في ليبيا وأشعل نيران الاتهامات بين حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس وسلطات المنطقة الشرقية، حيث أن الضغط الشعبي جعل الدبيبة يخرج عن صمته موضحاً أن سبب كل هذا هو مجلس النواب الذي رفض بشكل متكرر اعتماد ميزانية لحكومته وماطل أيضا.
ورداً على تصريحات الدبيبة أعاد مجلس النواب التأكيد على قراراته موجها خطابا لعدد من الجهات في الدولة الليبية يحذر فيه من تقديم المؤسسات والشركات العامة أي أموال لحكومة الوحدة الوطنية، سواء كانت بصورة قرض أو تحت بند المسؤولية الاجتماعية.
وعزا عقيلة صالح منع إعطاء الأموال للحكومة إلى وجود «تقارير رقابية صادرة عن السنوات المالية الماضية تظهر إهدارها للمال العام والتصرف فيه بغير وجه حق» بحسب نص الخطاب.
وشدد خطاب صالح على أن المخالفين سيضعون أنفسهم أمام المسؤولية القانونية بتهم التقصير في صيانة المال العام وإهداره بالمخالفة لأحكام القانون رقم (2) لسنة 1979 بشأن الجرائم الاقتصادية وتعديلاتها.
وشمل خطاب صالح النائب العام، ومحافظ مصرف ليبيا المركزي، ورئيس ديوان المحاسبة، ورئيس هيئة الرقابة الإدارية، ورئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ورئيس مجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط، ورئيس مجلس إدارة المؤسسة الليبية للاستثمار، ورئيس مجلس إدارة شركة الاتصالات القابضة، ورئيس مجلس إدارة صندوق الإنماء الاقتصادي والاجتماعي، ورئيس إدارة محفظة أفريقيا للاستثمار.
جاء ذلك بعد أيام من تصريح رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة خلال احتفالية أقيمت بالعاصمة طرابلس احتفاء بذكرى ثورة السابع عشر من فبراير، أكد خلاله أن مجلس النواب تسبب في تأخر صرف مرتبات شهر كانون الثاني/يناير بسبب عدم اعتماد الميزانية العامة لهذا العام.
ورغم الرخاء والراحة التي تحاول حكومة الدبيبة إظهارها علنا إلا أنها تمر بظروف صعبة اقتصاديا تزامنت مع إعلان منتسبي جهاز حرس المنشآت النفطية بمصفاة الزاوية غلق المصفاة ومجمعي مليتة ومصراتة النفطيين، للمطالبة بالحصول على حقوقهم من مرتبات وتسويات سابقة وتنفيذ قرار منحهم تأمينا صحيا مماثلا لما يحصل عليه الموظف في المؤسسة الوطنية للنفط.
وأمهل الموظفون في بيان مصور لعناصر الجهاز تداولته صفحات معنية على فيسبوك المسؤولين عن تشغيل تلك المنشآت خمسة أيام للرد عليهم، مشيرين إلى أن الإقفال سيطال الحقول والمجمعات والمنشآت والمخازن والإدارات في قطاع النفط على مستوى ليبيا، بعد الاتفاق مع زملائهم في حرس المنشآت النفطية، وسيستمرون في اعتصامهم دون تحديد وقت لاستئناف التشغيل، وشددوا على أنهم لا يتبعون أي فصيل سياسي، ويرفضون نقل منتسبي الجهاز إلى أجهزة أمنية أخرى إلا بعد إعطائهم كامل حقوقهم القانونية.
آراء وتحليلات
ومقابل هذه المشاكل يرى الخبير والمحلل الاقتصادي محسن الدريجة، أن دخل ليبيا من النفط خلال العامين الماضيين يعتبر الأعلى منذ سنة 2013 ومن المفترض أن يُحسن من الوضع المعيشي، وكان يمكن ان تكون هناك طفرة تنمية بسبب أسعار النفط المرتفعة والأسعار في متوسطها أكثر من 80 دولارا للبرميل ووصلت إلى 120 في بعض الفترات.
ويضيف أن ما حصل من تغيير في سعر الصرف للدولار الذي عادل كمية أكبر من الدينار الليبي استخدمتها الحكومة للتوسع في الإنفاق، وهذا التوسع تسبب في ازدياد كمية الدينار الليبي الأمر الذي زاد الطلب على الدولار بدل أن يتحسن سعر الصرف نتيجة لزيادة كمية الدولارات المتاحة للسوق الليبي، أي أن زيادة الانفاق امتصت كل الدولارات الإضافية وأكثر.
فيما صرح رجل الأعمال الليبي حسني بي أن أسعار العملة أو غيرها والمواد بجميع أنواعها إن كانت معمرة أو استهلاكية والخدمات بجميع أنواعها، يحدد سعرها قانون الاقتصاد الكوني، عرض زائد طلب يساوي سعر ولا يمكن لبشر أو سلطة أو حكومة تغيير هذه المعادلة الكونية حتى وإن يمكن التأثير فيها على المدى القصير جداً بشكل جزئي ومؤقت إلا أن هذا القانون ثابت، لذلك يمكننا القول بأن ما نحن به نتاج عرض/طلب + طلب /عرض د.ل ويساوي سعراً تبادليا للدينار.
وكتب الخبير الاقتصادي إبراهيم والي أن المشكلة الرئيسية تكمن في وجود فرق كبير بين سعر صرف الدولار الرسمي وسعر صرف الدولار في السوق الموازي، وما دام الفرق كبير بينهما فانه يشجع بوجود تجار مضاربين وهؤلاء المضاربون هم من يقومون نيابة عن مصرف ليبيا المركزي بدعم السوق الموازي وهو عدو المصرف المركزي كما يقول خبراء الاقتصاد، لكي لا يستطيع المصرف المركزي الدفاع على عملته الوطنية وتبقى تُنقل مكدسة وكأنها في سوق الخضار وتحت جدار المصرف المركزي.
وتابع والي «وكيف لا تكون كذلك عندما يأخذ المضارب بطاقة 10 آلاف دولار في الصباح من مصرف ليبيا المركزي ويذهب بها في المساء ليصرفها في السوق الموازي ليتحصل على إيراد من 7 إلى 8 في المئة، وعندما يعمل هذا المضارب هذه العملية عشر مرات فقط فإن الربح يتضاعف إلى 300 في المئة بل فيه من يتحصل على أكثر من 50 بطاقة فكيف يكون ربحه من هذه العملية؟».
وأكمل والي «قام المصرف المركزي بهذه السياسات الخاطئة ضناً منه أن قيمة الدينار الليبي سوف ترتفع مقابل الدولار، إذاً الفارق الكبير بين سعر صرف الدولار الرسمي وبين سعره في السوق الموازي هو الذي أدى إلى وجود تُجار عملة مضاربين وهو الذي فتح الأبواب مشرعة للفساد والتهريب والسرقة الخ.. إن هذه السياسات الخاطئة يقوم بها بشر من خلال حكومات متعاقبة وبذلك تكون نتيجة هذه السياسات الفشل والاخفاق في إدارة الانفاق ووجود السرقة والتهريب، كل هذه النتائج السلبية أدت إلى عدم التوازن في كل السياسات (السياسية والاقتصادية والنقدية، والمالية)».