كشف تحقيق أجرته وكالة بلومبرغ الأميركية، أن قيمة أنشطة تهريب الوقود في ليبيا تصل إلى خمسة مليارات دولار سنويا، إذ سلطت الوكالة في تقريرها الثلاثاء الماضي الضوء على احتجاز ناقلة النفط الليبية «ماجدة كوين» في ألبانيا منذ سبتمبر 2022.

وكالة بلومبرغ | تكشف حجم تجارة تهريب الوقود المدعم في ليبيا تصل إلى خمسة مليار دولار

وأظهر التحقيق أن ليبيا تحولت إلى أكبر مستورد للوقود والمنتجات النفطية من روسيا منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، إذ يجري نقل كميات ضخمة منه إلى القواعد العسكرية الواقعة تحت سيطرة مجموعة «فاغنر» الروسية في مالي والسودان، وإلى دول أوروبية.

وتتبع تحقيق «بلومبرغ» المنشور عبر موقعها الإلكتروني الثلاثاء، سجلات الشحن وبيانات ووثائق ديوان المحاسبة الليبي، لكشف حجم تجارة التهريب التي تكلف ليبيا مليارات الدولارات سنويا من الوقود المدعم.

 

وأجرت الوكالة الأميركية حوارات مع مسؤولين ليبيين، ومصادر مطلعة على أعمال تجارة النفط في ليبيا، ووجدت أن روسيا أصبحت من أكبر موردي الوقود والمنتجات النفطية إلى ليبيا منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا العام 2022، وكشفت أن حوالي 40% من الوقود المستورد يجري تهريبه عبر تجارة غير قانونية إلى دول في أوروبا وأفريقيا، وهو ما يعادل خمسة مليارات دولار سنويا

وقال مدير التحقيقات في منظمة «ذا سنتري»، تشارلز كاتر: «أدى إغلاق الأسواق الأوروبية في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا والعقوبات الغربية التي تلت ذلك إلى زيادة حادة في صادرات النفط الروسي المكرر إلى شمال أفريقيا، وهي منطقة تعاني من ندرة المصافي. ويرتبط هذا التدفق من الواردات النفطية ارتباطًا مباشرًا بعمليات تهريب الوقود المزدهرة في ليبيا».

 

ورغم امتلاك ليبيا الاحتياطي النفطي الأكبر في أفريقيا، إلا أنها تملك قدرات تكرير محدودة، ولهذا تستورد المؤسسة الوطنية للنفط الوقود بأسعار الوقود وتقوم ببيعه محليا بسعر مدعم، ما يخلق فرصا كبيرة لشبكات التهريب لبيعه وتهريبه بأسعار أعلى.

 

وقال اللفتنانت كولونيل دافيد دابونتي، من خفر السواحل الإيطالي في ميناء دوريس: «أصبحت المشكلة واضحة للغاية منذ الحرب الروسية. في الماضي، كانت جريمة صغيرة، قوارب الصيد، والصيادون هم الذين يستفيدون بشكل مباشر. والآن نشهد تزايدًا وتدويلًا لهذه الظاهرة، مع تورط شبكات الجريمة المنظمة أيضًا».

ودفعت العقوبات الأوروبية المفروضة على النفط والغاز الروسي الكرملين للبحث عن مشترين جدد للمنتجات النفطية، ويبدو أن ليبيا كانت من الخيارات المناسبة، حيث ارتفعت صادرات الوقود الروسية إلى ليبيا بأكثر من عشرة أضعاف منذ فبراير 2022، لتصل إلى 2.5 مليون طن في 2023 من 260 ألف طن في العام السابق، حسب بيانات جمعتها «بلومبرغ».

وأظهرت البيانات أن روسيا أصبحت أكبر مصدر للمنتجات النفطية المكررة إلى ليبيا، متفوقة على اليونان وتمثل 28% من إجمالي الإمدادات، بزيادة قدرها 4% مقارنة بالعام 2021. وبحلول العام 2023، أصبحت روسيا المورد الرئيسي للوقود إلى ليبيا.

 

وبلغت قيمة صادرات روسيا من الوقود إلى ليبيا 2.6 مليار دولار منذ يناير 2023، وفقًا لمركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف، الذي يتتبع تدفقات الطاقة من روسيا منذ بداية الحرب الأوكرانية، نصف هذه الكمية عبارة عن وقود الديزل وزيت الغاز والبنزين، وهي منتجات يجري تهريبها عادةً.

 

وبالاعتماد على تقديرات ديوان المحاسبة الليبي، يجري تهريب 40% من واردات الوقود الروسي، فإن هذا يعني أن حوالي نصف مليار دولار من منتجات الوقود الروسية التي دخلت ليبيا خلال العام 2023 قد تم تهريبها إلى أوروبا وأماكن أخرى.

ومنذ العام 2022، صدرت ليبيا الديزل والبنزين وزيت الغاز إلى دول أوروبية من بينها إيطاليا وإسبانيا ومالطا وفرنسا. وخلال العام 2023 تصاعدت وتيرة تهريب الوقود من ميناء بنغازي في الشرق. وقال مسؤول ليبي لـ«بلومبرغ» إن ما يقرب من 4 سفن تغادر الميناء أسبوعيا خلال العام الماضي محملة بالوقود المهرب. وفي سبتمبر وأكتوبر الماضيين، توقفت 6 سفن على الأقل في روسيا قبل تفريغ الحمولة في ميناء بنغازي وغيره من الموانئ الليبية، حسب بيانات تتبع الشحن.

 

وتحدثت مصادر مطلعة إلى «بلومبرغ»، طلبت عدم نشر أسمائها، عن زيادة أنشطة تهريب الوقود من قاعدة الجفرة في شرق ليبيا، إلى مالي. وتقع القاعدة تحت سيطرة شديدة من قوات «فاغنر» الروسية، التي تعمل لصالح المشير حفتر.

وقالت المصادر إنه يجري تحويل عشرات من شاحنات الوقود، المخصصة للبيع محليا، إلى قاعدة الجفرة. وقال أحدهم: «عشرات الشاحنات تجلب وقود إلى القاعدة أكبر ما تجتاجه لتشغيل عملياتها. يوضع بعضه على متن طائرات وينقل إلى قواعد روسية في مالي».وتحدثت مصادر أخرى عن رؤيتها شاحنات وقود يتم توجيهها للتحرك ونقل حمولتها من الخام صوب السودان.

ولم تعلن جهات التحقيق في ألبانيا مصدر شحنات الوقود التي جرى مصادرتها على متن الناقلة «كوين ماجدة»، سبتمبر 2022، لكن يعتقد أنها بيعت بشكل غير قانوني. ويواجه قائد وطاقم الناقلة أحكاما بالسجن تصل إلى عشر سنوات تقريبا.

لكن قائد الناقلة زهير الكويفي، 55 عاما قال، في رسائل عبر تطبيق «واتساب» إنه «وأفراد طاقمه ضحايا صراع على السلطة بين الأذرع المتنافسة لمؤسسة النفط الوطنية في ليبيا.. لقد جعلوني أبدو كرجل من المافيا. كان بإمكاني الهرب إذا كنت متورطا».

 

وكشفت جهات التحقيق في إيطاليا العام 2017، شبكة دولية لتهريب وقود الديزل على متن سفن من ليبيا إلى مالطا، ومنها إلى الأسواق الأوروبية. شملت تلك الشبكة لاعب كرة مالطي شهير، وزعيم تشكيل مسلح في ليبيا، وشركة شحن إيطاليا ومافيا.

 

وبحلول مايو 2022، لاحظ مسؤولو مؤسسة النفط الوطنية نمطا لتهريب الوقود من ليبيا إلى تركيا، لكن لم يتمكنوا من كشفه أو إيقافه، حسب وثائق حصلت عليها «بلومبرغ

وفي مذكرة بتاريخ 10 مايو 2022 إلى النائب العام في ليبيا، خص رئيس المؤسسة وقتها، مصطفى صنع الله، بالذكر ثلاث سفن، متورطة في تهريب شحنات الوقود، بينها «الملكة ماجدة»، وحث النائب العام على اتخاذ التدابير اللازمة لوقفها

وقال رئيس ديوان المحاسبة الليبي، خالد شكشك، في حوار مع «بلومبرغ» إن برنامج دعم الوقود توسع خلال السنوات السابقة في ليبيا، وقفز إلى 62 مليار دينار (12.8 مليار دولار)، في السنة المالية 2022، من 36 مليار دينار في العام 2021، وهو ما يمثل نصف الموازنة العامة.

 

لكن شكشك كشف، مستعينا بوثائق ديوان المحاسبة، أن ما يقرب من 40% من هذا المبلغ، حوالي 5 مليارات دولار، يجري تهريبه خارج ليبيا. كما يقدر المصرف المركزي خسائر البلاد بسبب تهريب الوقود المدعم بأكثر من 30 مليار دينار، أو 6 مليارات دولار.

 

وقال شكشك: «هكذا أصبحنا أمام قضية فساد كبرى. وتحول التهريب من نشاط محدود على يد أفراد إلى جريمة منظمة تقوم بها مجموعات ذات قوة ونفوذ، تستخدم شاحنات وناقلات نفطية عملاقة».

من جهته، قال رئيس المؤسسة الوطنية للنفط، فرحات بن قدارة، في رسالة إلى بلومبيرغ بالبريد الإلكتروني، إن «تهريب الوقود مشكلة كبيرة»، لكنه لم يستطع تحديد تقدير لحجم أنشطة التهريب، وقال إن «المؤسسة أصدرت توجيهات إلى شركة بريقة لتركيب أنظمة تحديد المواقع جي بي إس لمساعدة السلطات في التحقيق في أنشطة التهريب»، داعيا الحكومة إلى إعادة النظر في برامج دعم الوقود.أضاف أن «تهريب الوقود المدعم كلف ليبيا 750 مليون دولار في العام 2018».

 

وأشارت «بلومبرغ» إلى أن مبادلة النفط الخام مقابل الوقود، والتي استخدمتها دول أخرى، سهّلت شراء المنتجات دون استخدام العملة الصعبة وتدقيق البنك المركزي أو المؤسسات الحكومية الأخرى. كما أنه جعل من السهل اختفاء الأموال.

 

لكن ديوان المحاسبة وجد تناقضاً قدره 9 مليارات دولار بين ما قالت الحكومة إنها أنفقته على استيراد المواد الهيدروكربونية، بما في ذلك الوقود لبرنامج الدعم، والنفقات الفعلية.

في السياق قال كاتر من منظمة «ذا سنتري»: «مبادلة الوقود تلك سهلت الزيادة الكبيرة في الواردات. وهذا الفائض يجري تحويله من قبل أطراف ليبية غير شرعية، يقومون ببيع الوقود في السوق السوداء داخل وخارج ليبيا».

ويستفيد المهربون من فرق السعر بين الوقود المدعوم وما يباع في السوق السوداء. ورغم أن ليبيا ليست الدولة الوحيدة في المنطقة التي تقدم الدعم، إلا أن سعر وقودها مخفض للغاية ما يجعلها هدفًا مناسبًا.

 

وأدت حرب روسيا مع أوكرانيا إلى فارق أكبر في الأسعار. وفي حين يدفع الليبيون قرشا واحدا فقط مقابل لتر البنزين، نحو 1% من سعر السوق، فإن المستهلكين في أوروبا يدفعون نحو دولارين.

 

اتهام الدبيبة لشركة البريقة

ووجه رئيس «حكومة الوحدة الوطنية الموقتة»، عبدالحميد الدبيبة، نوفمبر الماضي، اتهامات مباشرة إلى شركة البريقة، التي تستقبل الوقود المستورد وتتولى توزيعه على شركات النقل، بالضلوع في زيادة أنشطة تهريب الوقود.

 

ولفتت «بلومبرغ» إلى أن اسم الشركة نفسها ظهر في وثائق الشحن الخاصة بناقلة «كوين ماجدة» المحتجزة في ألبانيا.

لكن رئيس شركة البريقة فؤاد علي بلرحيم رفض هذه الادعاءات، معتبرا أنها «بلا أي أساس من الصحة». وقال لـ«بلومبرغ»، في تصريحات يناير الماضي: «شركة البريقة تجمع، ولكنها لا تدقق، طلبات الوقود للوكالات الحكومية الرئيسية وتمررها للموافقة على الميزانية. كما أن البريقة ليست مسؤولة عن نقل الوقود بعد تسليمه لشركات التوزيع. ليس هناك ما يكفي من الرقابة».

وقالت «بلومبرغ»، نقلا عن دبلوماسيين غربيين ومسؤولين ليبيين، إن «هناك اعتقاد سائد بأنه مقابل الحفاظ على السلام، واستئناف إنتاج النفط، وافقت حكومة الدبيبة والمؤسسة الوطنية للنفط على غض الطرف عن أنشطة تهريب الوقود».

 

وقالت مسؤولون إن «عائلة المشير خليفة حفتر تستفيد من التجارة غير الشرعية في ميناء بنغازي»، ويعتقدون أن عائدات تلك الأنشطة اُستخدمت لتمويل أنشطة مجموعة «فاغنر» الروسية التي تعمل لصالح حفتر في شرق ليبيا.

لكن بن قدارة أكد، في بيان إلى «بلومبرغ» أن «تلك الادعاءات ليست صحيحة على الإطلاق». ولم يرد حفتر أو نجله صدام على طلبات التعليق.

وبدأت القصة في سبتمبر 2022، حينما احتجزت السفينة «ماجدة كوين» في ميناء رومانو بألبانيا، بعد أن غادرت ميناء بنغازي محملة بوقود الغاز بقيمة ملياري دولار. وكان قائد الناقلة، زهير الكافي، 55 عاما، يحمل وقتها شهادة موقعة تظهر أن الوقود تابع لشركة البريقة لتسويق النفط، وهي ذراع تابعة للمؤسسة الوطنية للنفط.

 

وشكك المحققون في ألبانيا في صحة أوراق الناقلة، ووجدوا أن «حتى خزانات المياه جرى ملأها بالكامل بوقود الغاز»، كما وجدوا أن الوثائق بشأن مصدر الشحنة مزورة. وتلقى الكويفي تعليمات باصطحاب «كوين ماجدة» إلى ميناء دوريس، حيث تم نقله هو وبعض أفراد طاقمه المكون من 10 أفراد إلى مركز الشرطة ووجهت إليهم تهمة التهريب.

 

شحنة الوقود المهربة كانت في طريقها إلى مجموعة «كاستراتي»، وهي شركة للطاقة تدير شبكة من محطات الوقود في أنحاء ألبانيا. والناقلة مملوكة لرجل الأعمال الليبي، نوري الداوادي، وشركته «الداوادي للشحن». وفي يونيو 2022، غير الداوادي علم السفينة من العلم الليبي إلى العلم الكاميروني.

وأمس الجمعة، ردت المؤسسة الوطنية للنفط على اتهامات وردت في تقرير وكالة «بلومبرغ» لشركة البريقة لتسويق النفط بالضلوع في تهريب الخام بعد احتجاز الناقلة «ماجدة كوين» في مياه ألبانيا منذ سبتمبر 2022.

 

وأوضحت المؤسسة في بيان، أنها تقدمت بعديد البلاغات إلى النائب العام بداية من 5 مايو 2022 عن ناقلات تنفذ عمليات شحن بحرية خارج إطار عملها وكذلك عمل شركة البريقة لتسويق النفط التابعة لها ومن بينها ناقلة النفط «الملكة ماجدة» المحتجزة حاليًا في ألبانيا.

 

واتهمت مؤسسة النفط الشركة المالكة لـ«ماجدة كوين» بـ«تزوير أوراق» الشحنة المحتجزة لتحمل شعار شركة البريقة، وحذرت من تداعيات هذه الاتهامات والتي تصل حد فرض حظر على النفط الليبي.

وكالة بلومبرغ | تكشف حجم تجارة تهريب الوقود المدعم في ليبيا تصل إلى خمسة مليار دولار

Shares: